الثقافة الهمجية

كل ما يخص علم الحكمة والفلسفة ومدارسها
أضف رد جديد
farajmatari

الثقافة الهمجية

مشاركة بواسطة farajmatari »

الثقافة الهمجية
لست سبابا، و لا أحب السب، و ‘كل الناس على عيني وعلى راسي’ … ، لكن إذا كان لدينا في مجتمعاتنا العربية و الإسلامية من التخلف و الجهل ما يدفع البعض لشتم المصلحين، و إلصاق صورهم بالأرض، و رفع صور الإفلاس، و يافطات البغض و الحقد، عاليا. و أدمغة تصب الزيت فوق النار، و النار فوق الزيت … بلا فرق في المسألة بين الاثنين طبعا، لتطفئ اللهب!!!. فلابد أن يكون العنوان الذي يخاطب هؤلاء إذا استفزازيا ملتهبا، لدرجة أن البعض سيحسبون أني أسبهم أو ألعنهم، و العياذ بالله. لكن، ليت هؤلاء يتوقفون قليلا فيعون أني ما قصدت إلا أن أقترب بوضوح من لغة اللعن و السب و الدعاء بالويل و الثبور التي يستعملونها. لا لغرض السب و اللعن طبعا، بل بغرض أن أخاطبهم على قدر عقولهم. لتكتشف الحقيقة الغائبة عنهم، و العيوب الكامنة في لغتهم، التي لا يرتضونها لأنفسهم من خصومهم. كل ذلك بغية تصحيح تخبطهم، بغرض تفادي الفتن المقبلة لا قدر الله.
إن الدعوة للصلح و التهدئة و نشر ثقافة التسامح و التعدد و العيش المشترك (حكمة ضائعة) في مجتمعاتنا. لم يعيها الجهلة، ولن يستطيعوا … (استيعاب مفرداتها) … أبدا. إلا بعد وقوع الفتنة طبعا، و تحققها على أرض الواقع، لا شاء الله ذلك. فبعد أن تحرق الفتنة الأخضر و اليابس: الأخضر ذلك الذي هو تاج على رؤوسهم من الأمن و النعيم الذي قد نسوه، و اليابس ذلك الخير و العز الذي يرفل بنعيمه (الآخرون) حولهم - و إن كانوا يرونه أو جزء منه حقا خاصا لهم سلب منهم-، فكفت به أيدي البعض (أي أيدي المخالفين) عن أن تمتد إليهم، بالأذى و الوجع الأكثر بأسا و ظلما. فبعدها قد يستيقظ هؤلاء. أقصد أنهم لن يستيقظوا إلا بعد أن تأتي الفتن على أموالهم و أولادهم و أهليهم و أصحابهم و عشيرتهم، فحينها ستلعب لغة المصالح لعبتها في تغيير الأفكار و معاني الكلمات، فتنتشر تبعا لذلك مفاهيم الحرية و التسامح و السلام و الدعوة للصلح، و تتحول دعوات الحرية و التعايش و التعددية و السلم من دعوات منبوذة و سبة يلعن بها مطلقوها، … ستتحول عندها بقدرة قادر إلى لغة ملائكية و مفردات رحمة و لغة إيمان و عقل و حنكة و حكمة و بديل شرعي عن لغة محرمة هي لغة السلاح و الشتم و التنزه عن المصالحة و المواطنة الصالحة. فهكذا تعوَّد الجهل على مر التاريخ أن لا يستيقظ ليبدد سرابه إلا بعد فوات الأوان.
عندها سيصبح البعض عقلاء، لكن متى يا ترى؟؟!!، طبعا: ‘بعد أن يفوت الفوت، فلا ينفع الصوت’. فعند إلحاح الحاجة ستعرف الأمور على حقائقها.
و بالمناسبة، فقد ذكرني أحد الإخوة الأعزاء ذات يوم، بـ ‘وقعة الشربة’، تلك الوقعة التي ينقل أنها: ‘ وقعت في سوق القطيف في يوم الخميس الثامن عشر من جمادى الأولى عام 1326هـ [يوافق التاريخ 18 يونيو 1908]. وأصلها كما يقول المرحوم الشيخ* (أن صبيّاً اسمه مكي بن الحاج إبراهيم الدبوس، من أهالي الدبابية كانت بيده شربة كبيرة (جرّة ماء) متخذة من الطين، ومملوءة ماءً للبيع. ووقعت من يده على الأرض فانكسرت، فرمى بها في الشارع فوقعت قريباً من أحد البداة، فظنّ أنّه رماها عليه متعمّداً، فجاء إليه البدوي فلزم حلقه ليخنقه، ووضع خنجره في خاصرته ليقتله، فاجتمعت عليه الناس فخلصوه. فكثر القال والقيل، وفشا السبّ والشتم، وتوفّر الضرب والجرح، فكانت الحادثة العظيمة بين الشيعة وعشائر السنّة من الصبيح ومطير والعجمان والعوازم والمهاشير وغيرهم، واستمرت الحادثة سبعين يوماً تقريباً [أواخر أغسطس 1908، أو أواخر رجب 1326هـ] وقتلت من الشيعة والسنّة رجال أبطال وذوو شخصيات، … ‘(1).
هكذا استيقظت الفتنة ذات يوم، و لو لم تكن النفوس مهيأة لها، و الثقافة مشحونة بمسببات البغضاء و النزال المؤججة لها، لما حدث كل ما حدث. فماذا لو حدث ذلك بين اثنين من أبناء القطيف (الشيعة) مثلا، أو بين اثنين من غير أبناء القطيف ، لكن من (الشيعة) أيضا، أو حدث بين اثنين من أبناء (السنة)، هل كانت النفوس لتثور بنفس الطريقة؟؟؟!!!. و هل كان ذلك كفيلا بإشعال هكذا فتنة دامية؟!!!. بالتأكيد لا. إنها فتنة صنعتها (الثقافة)، فالقاتل الحقيقي هنا الذي ضيعه إصبع الاتهام، هو (ثقافة الفتنة): الحرب النائمة … (القاتل الصامت).
في العراق أيضا كانت الأمور الطائفية هادئة نوعا ما، لكن كانت هناك فتنة نائمة، بل فتنة قائمة على رجل و ساق، لكنها مستورة عن الأنظار. لأنها كانت واقعا مقيدة بفعل الاضطهاد، الذي كان مفروضا بالقوة على الجميع - و إن تفاوتت النسب-. فالشحن و السب و التكفير منتشر في كتب الفريقين (السنة و الشيعة)، فما المانع من تأجج الصراع، إذ لا يمكن أن تكون الثقافة مشحونة بعوامل الشقاق و الحقد و الضغينة، ثم بعد كل ذلك تخلوا النفوس و المجتمعات من انفعالات ذلك كله. لقد كان الجمر متقدا، لكن غطاه الرماد، فلما انكسر قيد الاستبداد، انطلق الشرر في كل اتجاه، غير عابئ بأرواح الأطفال ولا العجائز و لا الأبرياء. وليس المهم هنا الالتفات لمن أطلق و أشاع تلك الثقافة المدمرة فقط، بقدر ما يهم أيضا الالتفات لكل من أغفل ذلك، أو قبله أو ساعد على انتشاره.
في الخليج أيضا، كما في الكثير من دول الاختلاط بين السنة و الشيعة، كما في العراق مثلا، و كما في الباكستان، و أفغانستان … و غيرها، (ثقافة): كراهية و حقد و سب و عداء و تمزق و تكفير و ذبح … ليست خافية على أحد. إنها فتنة مستعرة ليست نائمة، و إن صح لنا أن نسميها (فتنة نائمة) فمن باب المجاز لا أكثر ولا أقل. فقد كانت ولا زالت الفتنة تحرق الفريقين بنارها، في موقف هنا، أو آخر هناك، يكتوي بشررها الصغير قبل الكبير، و تحرق بويلاتها الفقراء قبل الأغنياء، و يقع ضحيتها المؤمن قبل سواه. لا تعترف بالمبادئ الإنسانية و لا تدرك أهميتها، و لا تعي حقيقة حقوق الإنسان، بل قد تطعن فيها، و قد تمزق كافة مواثيقها. في هذه الفتنة، و إن كان الشيعة طبعا هم ضحية هذا التمزق غالبا، إلا أن السنة أيضا واقعين أقلا في نفس المأزق بحكم الشراكة في الخلاف و النزاع.
لقد سطرت في كتب التراث الأحاديث تلو الأحاديث، و المواعظ تلو المواعظ، في ذم الفتنة، واللعن الصريح لمن يوقظ الفتن. لكن الغريب و الأغرب من الغريب، أن أكثر من ابتلوا بالدعوة للفتن، و إيقاظها، أو تشجيعها، أو إثارتها، أو تأجيجها، أو فك القيد عنها، أو السعي لإطلاقها، هم في أغلب الأحيان من رجال الدين، أو من المؤمنين، أو من حملة راية التوحيد و السلام، أو من المكتوين بنار الفتنة من المستضعفين الطالبين للعدل الناقمين على الفتنة، الضاجين من شررها، الذين زيفت الثقافة الرجعية الحقائق أمام أبصارهم، فإذا هم أول من يبادر لإطلاق ماردها من القمقم. فيا للعجب، من الجهل و ما يفعله بالرجال الفطاحل قبل ‘الأجاهل’ ، و بأصحاب المقالم و المحابر، قبل أصحاب التبن و الحظائر. لقد أصبح البعض يطالب بالحقوق عبر بوابات السب و التكفير و العداء، لكل من خالف في الفكر و المعتقد: صغيرا كان أم كبيرا، متعلما كان أم جاهلا، فقيرا كان أم غنيا، عبدا كان أم سيدا … فالمسألة عند هؤلاء لا تفرق أبدا. فهل يصنع التكفير و السب مجتمعا متجانسا يعشش فيه (الحب و العدل)، الذي يطلبونه؟!!. أو هل يمكن أن يخلق جنس من (العدل)، يعيش وسط الكره و الحقد و البغض؟!!.
البعض يجد إلى سبيل العنف ألف باب، و ألف سبب، و ألف طريقة، و ألف مبرر. فالعدل الذي ستخلقه (ثقافة الحب) ملعون ملعون و ابن ملعون … وهو صناعة العمالة و تضييع الدين. و العدل الذي هو (العدل الحقيقي في عرف هؤلاء) … هو ذلك الذي يقوم على (ثقافة): الحقد و الكره و السلاح، و يقتات على تمزيق الأوطان. حتى لو غدا الوطن الواحد ممزقا ألف قطعة تافهة، لا تساوي حتى وزن حبة رمل ضلت في صحراء. فباسم الدين يمكن أن يصبح التمزق و الحقد و التباغض و الاقتتال: عدلا و خيرا و حبا.
كيف لهذه الثقافة الهمجية في الحاضر أن تصنع (أمة متحضرة)، من رماد التمزق و التناحر الذي خلفته ثقافة همجية قامت على السب و التكفير فيما مضى؟؟؟!!!. هل حزم رواد هذه الثقافة أمتعتهم للرحيل عن بلادهم بعد سلب خيراتها؟؟؟!!!. أم هل مر في أذهانهم (وهم) يمنيهم أن الآخرين سيتركون لهم خيرات الأرض على طبق من الألماس، بعد أن ينظفوا الأرض، ليرحلوا عن الوطن، إكراما لسواد عيونهم، ليذهبوا إلى حيث الجوع و الفقر و الحرمان و الموت؟!!!. ألم يعلم هؤلاء أن الوطن للجميع، و أن خيراته للجميع، و أن الإنسان يمقت الجوع و الفقر، و أن الجوع و الكفر أخوان لا يفترقان، و أن أحدا لن يرحل عن وطنه و لن يتنازل عن حقه، إكراما لعيون الآخرين؟؟؟!!!. ألم يعلموا أن صراعات الحياة كلها قائمة على المصالح؟!!، و أننا بواقعنا صنيعة الماضين بثقافتهم و مصالحهم؟؟؟!!!، و أنهم لا بديل لديهم لخير الجميع عن العيش المشترك و تقاسم الأرض و الثروات و التسامح في الثقافة و الفكر و الدين و المعتقد؟!!!. هل جهل المفتنون يا ترى أنهم و جميع أجناس البشر يعيشون فوق أرض واحدة لا يسكن أرضها ولا ماءها ولا سماءها جنس واحد يستفرد بالخيرات منفردا، دون أن يجد له من ينازعه ذلك؟!!!. لم جهل هؤلاء يا ترى أن الحياة لا تخلوا من ذلك التعايش الذي لا بد منه؟؟؟!!!. لم جهلوا حاجتهم للتكيف؟؟؟!!!، و أن ذلك التكيف بحاجة للمنطق؟؟؟!!، و أن المنطق لا يقتضي الفتن، بل يقتضي السعي الحثيث للإصلاح و صناعة: التفاهم، و ثقافة التعايش في ظل العدل و السلم و الحب و التسامح.
عندما تشارك الحياة مع آخرين يخالفونك في المعتقد، أو الأفكار، فليس من صالحك أن تبحث عن نقاط التوتر، خصوصا ذلك التوتر الذي تثيره مع من يسكن معك في بيت واحد أو أرض واحدة أو وطن واحد. فعندها حتى لو حصلت على الماء و الكلاء و زيادة الرفاهية، فلن يهنأ لك عيش، و لن يطيب لك نوم، ولن تعيش سعيدا و إن امتلأت معدتك بالطعام، مادمت تبادل الآخرين من حولك الكره و البغض و الحقد. إلا إن كنت قد قررت أن تهجر هذا الوطن إلى حيث لا يعثر عليك أحد، أو كنت قد قررت أن تذبح كل الآخر الذين ورطتك الحياة في شراكة معهم لست راغبا فيها.
إن الإصلاح هو اللغة البديلة عن العنف و القتال من أجل نيل الحقوق العادلة و المشاركة المنصفة. لكن الإصلاح لغة صعبة على أمة حولت الكره إلى دين، في وقت تسمي فيه الدين بـدين ‘الحب و السلام’. و تلك غريبة من تلك الغرائب التي لا توقظ هؤلاء، فقد صنعوا منطقهم بالطريقة التي يطيب معها الكفر و الإيمان في قالب واحد.
أخبروني ماذا ستجنون من ثقافة لم تزيدوها فوق ما هي مشحونة به من ثقافة كره إلا كرها مثله، و لم تنقصوا منها من ثقافة الحب ، إلا حبا مثله؟؟؟!!!!.
قد يطول بي الكلام، و أنا أروم الاختصار، لكن القلم يعارضني. ففي القلب شيء من الغيظ و الضيق و الحزن على ماضينا و حاضرنا الذي ضيعناه، و خوف لا ينتهي أيضا على مستقبلنا الذي قد نضيعه أيضا. إنني أجد نفسي كلما مضيت في هذا المقال لأختصر لم أجد لذلك سبيلا. فأي كلام أوجهه لهؤلاء … دعاة العنف و الكراهية، قد لا ينفع. أي مشروع يحمل هؤلاء في رؤوسهم و أدمغتهم؟!!. هل يعقل أن يحلم هؤلاء بصنع وطن يسوده الحب و العدل و السلم على ركام الكراهية و البغضاء؟؟؟!!!.
كلما تذكرت هؤلاء (العباقرة)، تذكرت البؤس و القهر و التخلف و الجهل، و تذكرت أيضا شعرا نبيلا جدير أن أختم به هذا المقال، وهو قول الشاعر العربي:
بلادي و إن جارت على عزيزة وأهلي وإن جاروا على كرام
فليت هذا الشاعر يستيقظ من موته، ليعلم سفهاءنا معاني الحياة، و قيمة الوطن، ومعنى الوطنية. فيهديهم سبل الإصلاح في الأوطان عندما تسودها ثقافة الكراهية أو الجور أو الظلم. فهل يصح إصلاح الأوطان بمزيد من بث ثقافة الكراهية، أم لا بديل عن بذل ثقافة الحب و الود و التسامح، كما أشارت هذه الأبيات؟؟؟!!!

والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
منقول
 تنبيه مهم : عليك ان تقرأ الشروط عند تقديم اي طلب جديد والا سيتم حذف موضوعك •• اقرأ الشروط ••

صورة العضو الرمزية
سمفونية السمو
عضو متميز فعال
عضو متميز فعال
مشاركات: 226
اشترك في: الأربعاء 8-5-2013 7:16 am
البرج: الجدي
الجنس: انثى

الثقافة الهمجية

مشاركة بواسطة سمفونية السمو »

جزاك الله كل خير على هذا الطرح الرائع

تبارك النور القدوس الذي انبثقت به الحياة
أضف رد جديد

العودة إلى ”الحكمة والفلسفة“