اسس الفلسفة 2

كل ما يخص علم الحكمة والفلسفة ومدارسها
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
سمير العاشقي
عضو متميز فعال
عضو متميز فعال
مشاركات: 787
اشترك في: الأحد 16-7-2006 8:05 pm
الجنس: اختار واحد

اسس الفلسفة 2

مشاركة بواسطة سمير العاشقي »

في إيران تلك التحقيقات التي قام بها ذلك العالم الفذ في المواضيع الفلسفية المهمة محوراً لها.

وتدور معظم بحوث صدر المتألهين حول الفلسفة الأولى والحكمة الإلهية. وقد تمثل صدر المتألهين بصورة رائعة ما وصل إليه من آثار اليونانيين القدماء ولا سيما أفلاطون وأرسطو، واستطاع أيضاً هضم ما قدمه الفارابي وأبو علي وشيخ الإشراق وغيرهم من تفسير أو من إبداع، واستوعب أيضاً ما أدركه العارفون العظام بوحي من أذواقهم وقوة عرفانهم، ثم شاد أساساً جديداً على قواعد وأصول محكمة لا يتطرق إليها الخلل، وأخرج مسائل الفلسفة بشكل رياضي بوساطة البرهان والاستدلال، بحيث تستنبط وتستخرج إحداها من الأخرى، وبهذا أخرج الفلسفة من التبعثر والتشتت في طرق الاستدلال.

ومنذ عصر أرسطو ذلك الفيلسوف الثائر ضد آراء أستاذه أفلاطون تلاحظ وجود مذهبين فلسفيين يسيران بشكل متواز، ويعتبر أفلاطون ممثلاً لأحد هذين التيارين، أما أرسطو فهو الممثل للتيار الآخر، وقد وجد أتباع لكل واحد من هذين المذهبين في كل مرحلة تاريخية لاحقة، وعرف هذان المذهبان الفلسفيان في أوساط المسلمين باسم مذهب الإشراقيين ومذهب المشائين. واستمرت المشاجرات الفلسفية بين هذين الاتجاهين فترة تزيد على الألفين من الأعوام بين اليونانيين ثم في الإسكندرية وبعد ذلك بين المسلمين، ثم بين الأوربيين في القرون الوسطى.

وقد وضع صدر المتألهين نهاية حاسمة لهذا النزاع الطويل بالأساس الجديد الذي شاده في فلسفته، ومنذ هذا الزمن فما بعد لم يعد معنى لوقوف أحد هذين الاتجاهين في مقابل الآخر. وقد

لاحظ كل من جاء بعده واطلع على فلسفته أن النزاع الذي امتد لألفي عام بين المشائين والإشراقيين قد اختتم على يد هذا الفيلسوف العظيم.

وكان فلسفة صدر المتألهين رائعة وغير مسبوقة ولكنه أفاد من جهود المحققين الكبار الذين تقدموا عليه خلال ثمانية قرون، والذين كان لكل منهم نصيب في تقدم الفلسفة وتطورها.

وقد مرت - مع الأسف- منذ ظهور هذه الفلسفة ولحد الآن أربعة قرون ولم تُقّدَم خلالها هذه الفلسفة ولو إجمالاً إلى أوربا. ويؤيد هذا الزعم المتخصصون بشؤون الشرق.

يقول البروفسور إدوارد براون المستشرق البريطاني المعروف والمتوفى سنة 1304 هجرية شمسية والذي أنفق عمره في البحث والتحقيق في شؤون إيران وتاريخها في كتاب تاريخ الآداب في إيران - الجزء الرابع:

" رغم انتشار فلسفة ملا صدرا ورواجها في إيران لم أجد لها أثراً على ألسنة الأوربيين إلا بشكل خلاصتين سطحيتين وناقصتين. فقد كتب كنث كوبينو بعض الصفحات التي تتناول عقائد ملا صدرا، ويبدو أنّ معلوماته كلها مستقاة من الدروس الشفاهية التي حضرها عند معلميه في إيران، ولم يكن لهؤلاء المعلمين- على ما يظهر- اطلاع كامل على آراء ذلك الرجل. وفي نهاية حديث كوبينو عن ملا صدرا قال أن الطريقة الحقيقية لملا صدرا مأخوذة بعينها من ابن سينا. بينما يقول صاحب روضات الجنان بشأن ملا صدرا كان.. منقحاً أساس الإشراق بما لا مزيد عليه، ومفتحاً أبواب الفضيحة على طريق المشاء والرواق. ولكن هناك تعريفاً لهذا المذهب أكثر اختصاراً وأكثر جدية وأقرب إلى الصحة وهو التعريف

الذي قدمه الشيخ محمد إقبال (أي الدكتور إقبال الباكستاني) ".

وقد سجل إدوارد براون في نفس ذلك الكتاب:

" إن أشهر كتب ملا صدرا هو الأسفار الأربعة وشواهد الربوبية" ، ثم علق في الحاشية: " بأن كنت كوبينو قد أخطأ في معنى الأسفار فأخذها على أنها جمع سفر وهو الكتاب".

وكتب في كتاب " مذاهب وفلسفات آسيا الوسطى" ص 81:

"لقد كتب ملا صدرا عدة كتب أخرى تتعلق بالسفر". ولم تصل أيدينا إلى الكتاب الذي ألّفه المرحوم إقبال الباكستاني باللغة الإنكليزية أثناء دراسته في جامعة كمبريدج والمسمى بـ "تطور الحكمة في الإٍسلام"، ولكن القدر المسلم أنه كان مختصراً جداً ولا يرسم صورة واضحة للحكمة الإسلامية.

ويعتبر هذان المستشرقان (كنت كوبينو وإدوارد براون) من أكبر المستشرقين.

يقول العالم المتتبع المرحوم الشيح محمد خان القزويني الذي قضى ثلاثين سنة في المكتبات الأوربية وعقد روابط وثيقة وعن قرب مع كثير من المتخصصين بشؤون الشرق في مقالة نشرت في مجلة "إيرانشهر" الصادرة في برلين وذلك بمناسبة وفاة إدوارد براون وأدرجت في كتاب "بيست مقالة" (ومعناه "عشرون مقالة") - يقول بحق إدوارد براون :

"لم يتحمل هذا العناء ولم يبذل كل هذا الجهد أي مستشرق من أوروبا أو أمريكا في موضوع الآداب الإيرانية ولا سيما تلك الآداب والأذواق والمعنويات الإيرانية، أي أنه لم يكن هناك مثله من

أحب من أعماق قلبه حباً خالصاً أفكار الحكماء والعارفين وأصحاب المذاهب المنتشرة في إيران".

وذكر في تلك المقالة إن كنت كوبينو "هو من كتّاب فرنسا المشهورين وله كتب عديدة فلسفية واجتماعية ودينية وتاريخية، وهو مؤسس طريقة معينة في فلسفة التاريخ تعرف باسم "الكوبينية"، ولهذه الطريقة اتباع منتشرون في ألمانيا، وقد عيّن منذ سنة 1271 (هجرية قمرية) نائباً أول لسفارة فرنسا في طهران وعيّن سنة 1278 وحتى سنة 1280 وزيراً مفوضاً لفرنسا في طهران".

وقد لاحظتم أن أحد هذين المستشرقين يعتبر صدر المتألهين تابعاً لمذهب المشائين، أما الآخر فهو يستند في رد هذا القول إلى واحد من كتب التراجم والتاريخ (وهو روضات الجنات). أحدهما يقول إن الأسفار هي جمع سَفَر أي السياحة في الأرض، والآخر يقول أنها جمع سفر وهو الكتاب. ولو كلف هذان الكاتبان أنفسهما عناء قراءة الصفحة الأولى من كتاب الأسفار لعرفا أن الأسفار هنا ليست جمعاً للسفر بمعنى السياحة ولا للسفر بمعنى الكتاب.

ويبدو أن المقصود بالمعلم الشفاهي الذي يقول إدوارد براون أنه قد علّم كوبينو فلسفة ملا صدرا في إيران هو رجل يهودي اسمه "ملا لاله زار"، وقد تمت بمساعدته ترجمة كتاب "مقال في المنهج"، لديكارت إلى اللغة الفارسية.

وعندما يذكر كوبينو أستاذ صدر المتألهين وهو الفيلسوف العظيم مير محمد باقر الداماد فإنه يعتبره فيلسوفاً "جدلياً" (ديالكتيكياً).

وهو يشير إلى ذهاب ملا صدرا إلى درس مير داماد بإشارة من الشيخ البهائي ومقدار ما حصله منه بقوله:

"وبعد عدة سنوات وصل إلى ما نعهده فيه من بلاغة وفصاحة". وليس غرضنا انتقاد طريقة المستشرقين لأنه من غير المتوقع من أبناء الأمم الأجنبية أن يأتوا ويفسروا فلسفتنا وعلومنا وديننا وآدابنا وتاريخنا ويقدموها للعالم كما هي. والمثل العربي يقول:

"ما حك ظهري مثل ظفري".

وإذا كان هناك أناس يتوقون إلى معرفة تاريخنا وآدابنا وديننا وفلسفتنا وهم يريدون نقلها إلى العالم فإن الطريق الوحيد لذلك هو أن ينهضوا لهذا العمل بأنفسهم.

أما الأشخاص القادمون من الأمم الأخرى فلو فرضنا أنهم ينهضون بالعمل بأتم حياد وحب فإنهم- بسبب نقص اطلاعهم- سيقعون فريسة لأغلاط واشتباهات كبيرة، كما نلاحظ وجود أخطاء متعددة في توضيح تاريخنا وآدابنا وعاداتنا، ناهيك بالفلسفة التي تحتاج إلى تخصص فني ولا يكفي فيها معرفة اللغة ومراجعة الكتب.

ولهؤلاء المعتقدين بالمستشرقين نذكر هذه القصة نموذجاً لما قدمنا الحديث عنه، فقد نشر كنت كوبينو الذي عاش في زمان ناصر الدين شاه وأقام في إيران وتكلم اللغة الفارسية بطلاقة -نشر كتاباً أسماه " ثلاثة أعوام في إيران" باللغة الفرنسية وترجم بعد ذلك إلى اللغة الفارسية. وهو عندما يشرح كيفية سؤال الإيرانيين لبعضهم عن أحوالهم يقول:

" عندما يستقربك المجلس ويجلس صاحب الدار مع بقية الحضور فإنك تتجه إلى صاحب الدار وتسأله:

أيكون أنفك سميناً؟

ويجيبك صاحب الدار: بحمد الله أنفي سمين، فكيف هو

أنفك؟ وقد لاحظت في بعض المجالس أن شخصاً قد سُئِل هذا السؤال خمس مرات وأجاب عنه. ويذكر في مقام المدح أن واحداً من علماء طهران كان متميزاً بخصلة مهمة وهي أنه عندما يذهب إلى لقاء أحد الوجهاء فهو لا يسأله عن أنفه فقط ولا عن أنوف أقربائه فحسب وإنما يسأله عن أنوف الخدم والحراس أيضاً".

فهذا الرجل بسبب عدم معرفته الدقيقة باللغة الفارسية قد وقع في هذا الخطأ فظن أن جملة "دماغ شماجاق است؟" تعني " أيكون أنفك سميناً؟"، وهو ينقل هذه القضية متهكماً ساخراً(بينما هي تعني: أتصور أن المقصود عند الإيرانيين (هل أنت مرتاح؟ هل أنت طيّب الخاطر؟) لا الدماغ بمعنى المخّ!! "أيكون مخك سليماً؟").

ومن المؤكد أن كنت كوبينو لم يكن مغرضاً في هذا النقل ولكن معرفته الناقصة باللغة الفارسية قادته إلى هذا الخطأ.

وعندما يكون الأمر على هذه الصورة في التعريف بالآداب والعادات فكيف يكون الحال في مورد الأفكار الفلسفية؟

ونحن نعلم أنه في إيران - ذلك المكان الذي ترعرعت فيه أفكار أمثال ابن سينا وصدر المتألهين- قد رغبت أجيال في معرفة تلك الأفكار، وبعد أن ينفقوا أعمارهم لهذا الهدف لا يخرج من بين آلاف الطلاب إلا بعدد أصابع الكف الواحدة ممن يفهمون هذه الفلسفات ويدركون آفاقها.

وعلى هذا فكيف نطمئن بأن الفلسفة الإسلامية لعشرة قرون مضت وفلسفة ابن سينا كما يفهمها طلابه قد ترجمت كما تستحق أن تترجم وقد أُدّي المقصود في الترجمة كما هو موجود في الأصل.

في نفس الوقت الذي كان صدر المتألهين مشغولاً فيه بتقليب أمور الفلسفة وتشييد أساسه الجديد (في القرن الحادي عشر الهجري الموافق للقرن السادس عشر الميلادي) ظهرت في أوربا حركة فلسفية وعلمية عظيمة كانت قد تهيأت مقدماتها منذ عدة قرون.

وفي الوقت الذي آثر فيه صدر المتألهين العزلة للتفكير والرياضة في المنطقة الجبلية لمدينة قم حتى يتفرغ لكتابة أفكاره العميقة، أشاع ديكارت الفيلسوف الفرنسي نغمة جديدة في أوربا، فقد ألقى من عاتقه تقليد القدماء واتخذ لنفسه طريقة حديثة واختار زاوية من هولندا للانعزال وفرّغ نفسه للأعمال العلمية.

ومنذ عصر ديكارت فما حققت أوربا اكتشافات علمية ضخمة وبسرعة هائلة.

وتبدلت طرق التحقيق العلمي في مختلف التخصصات وظهرت موضوعات جديدة. وبالإضافة إلى ظهور علماء في العلوم الطبيعية والرياضية فقد ظهر فلاسفة عظام بصورة متلاحقة، وبهذا دخلت الفلسفة في مرحلة جديدة.

واهتمت الفلسفة الجديدة اهتماماً ضعيفاً بتلك الموضوعات التي كانت محور البحث في القرون الوسطى، أما الموضوعات التي لم يهتم بها القدماء فقد نالت في هذا الزمن كل الاهتمام.

وبرزت على الساحة في أوربا مذاهب فلسفية متباينة منذ عصر ديكارت وحتى العصر الحاضر، وكان لكل من هذه المذاهب أتباع ومؤيدون. فبعض انصرف إلى الفلسفة العقلية، وبعض نظر إلى الفلسفة من نافذة العلوم التجربية العقلية، وبعض اعتقد بأنه يمكن البحث والتحقيق في مسائل الفلسفة الأولى والحكمة الإلهية وأبدى آراء في هذا المجال، وبعض ادعى أن الإنسان عاجز عن إدراك
هذه المواضيع، وكل ما قيل في هذا المضمار- نفياً أو إثباتاً- فقد كان قولاً بغير دليل. كانوا إلهيين في عقائدهم وبعض كانوا ماديين.

وعلى الإجمال لم يحصل أي تقدم مهم في هذا الفن المسمى بـ "الفلسفة الحقيقية" أو "العلم الأعلى" وهو الفن الذي يأخذ على عاتقه التحقيق في النظام الكلي للعالم وتوضيح الوجود بأسره، سواء في أوربا القرون الوسطى أم في أوربا الحديثة، ولم يظهر نظام قوي مقنع يحفظ الفلسفة من التشتت والتفرق وأدى هذا إلى ظهور مشارب متناقصة في أوربا.

وأما ما هو موجود في أوربا باسم الفلسفة وهو يستحق الإعجاب والاستحسان فهو لا يربط بالفلسفة، وإنما هو متعلق بالرياضيات أو الفيزياء أو بعلم النفس.

ومن الإنصاف أن نعترف بأن الفلاسفة المسلمين الذين وجّهوا معظم جهودهم للتحقيق الفلسفي قد أنجزوا الشيء الكثير ودفعوا الفلسفة- التي أوصلها اليونانيون إلى منتصف الطريق- نحو الأمام، ومع أن مسائل الفلسفة اليونانية عند ورودها إلى الحوزات الإسلامية لم تكن تتجاوز مائتي مسألة فإنها قد بلغت في الفلسفة الإسلامية سبعمائة مسألة، وتغيرت فيها أصول وطرق الاستدلال حتى في المسائل الأساسية لليونانيين، واكتسبت الفلسفة خاصية رياضية. وتظهر هذه الخاصية بجلاء فلسفة صدر المتألهين. ومن الإنصاف أن ننسب هذا التقدم إلى العلماء المسلمين.

وسوف تتضح هذه المواضيع خلال هذا الكتاب مدّعمة بالوثائق والأدلة.

منذ فترة من الزمن اقتحم إيران تيّار الفلسفة الأوربية، فترجمت بعض الكتب الفلسفية إلى اللغة الفارسية، ولعل أول أثر فلسفي يترجم إلى هذه اللغة هو كتاب " مقال في المنهج " لديكارت الذي ترجم قبل قرن من الزمن على يد كنت كوبينو ومساعدة بعض من أعوانه، ثم شاع صيت العلوم الغربية وترددت على ألسن الناس أسماء العلماء والفلاسفة الغربيين، وانتشرت الكتب باللغة المحلية، واستطاع البعض أن يطلّع على ما يكتب أو ينشر في المجلات باللغة العربية مما يدور حول النظريات الحديثة.

ومع أنه قد مرت برهة من الزمن على رغبة بعض الناس في تطعيم الفلسفة القديمة بالعقائد والآراء الحديثة، وفي إجراء المقارنة بين النظريات المعاصرة ونظريات الفلاسفة المسلمين، ولكن هذا الأمر لم يتحول إلى المجال العملي مع الأسف الشديد، ومنذ ذلك الزمن ولحد الآن إما أن تكتب المؤلفات الفلسفية بطريقة القدماء، وأحياناً كانت تتبع الآراء القديمة في تناولها للأمور المتعلقة بالطبيعيات والفلك، ونحن نعلم أن النظريات الحديثة تخالفها تماماً، وإما أن تكون ترجمة ونقلاً فقط للنظريات الحديثة.

ولما كانت طريقة التحقيق وتناول الفلاسفة المحدثين مختلفة تماماً عما نعهده عند القدماء، ومن ناحية أخرى فإن أغلب المسائل المطروحة في الفلسفة القديمة وخصوصاً في فلسفة صدر المتألهين وهي تؤدي دوراً أساسياً في فلسفته لم تنل إلا اهتماماً ضعيفاً أو لم يُلتَفت إليها إطلاقاً وصُرف الاهتمام نحو مواضيع أخرى لم يعرها القدماء إلا اهتماماً ضئيلاً أو لم يهتّموا بها إطلاقاً- لما كان الأمر كذلك لم تستطع هذه الكتب بقسميها أن تحقق الهدف الذي كان يتطلع إليه ألئك الداعون إلى التطعيم والمقارنة.

ولهذا فإن هذا الكتاب - الذي يمثل الجزء الأول منه الآن أمام نظر القارئ الكريم - لم يولّف بأحد هذين الأسلوبين الفلسفيين اللذين مرّ الحديث عنهما قبل قليل.

وهو يشتمل على دورة فلسفية مختصرة، ويوضح أمهات المسائل الفلسفية، وقد تم بذل الجهد فيه- حد الإمكان- ليكون مفهوماً عند أغلب الناس سهل التناول وذلك ليتمكن الأشخاص الذين يتذوقون الدراسات الفلسفية ويتمتعون باطلاع ولو مختصر في هذا المجال من الاستفادة منه، ولهذا أعرضنا عن ذكر الأدلة والبراهين المتعددة لكل موضوع وانتقينا أسهل السبل وأبسط البراهين لإثبات المدعى.

واستفيد في هذا الكتاب من التحقيقات القيّمة للفلسفة الإسلامية خلال ألف عام من عمرها، واستفيد أيضاً فيه من تحقيقات علماء أوربا العظام.

واستعرضنا فيه المسائل التي تحظى بالأهمية في الفلسفة القديمة والمسائل التي هي جديرة بالبحث في الفلسفة الحديثة. وسوف نلاحظ ضمن هذا الكتاب بعض المسائل التي لم يتقدم بحثها لا في الفلسفة القديمة ولا في الفلسفة الحديثة، مثل معظم المسائل الواردة في المقالة الخامسة، ومثل المسائل المدرجة في المقالة السادسة.

وفي المقالة السادسة تمّ تناول جهاز الإدراك والتمييز والتفكيك بين الإدراكات الحقيقية والإدراكات الاعتبارية بالنقد والتمحيص بشكل لم يسبق له مثيل. وأوضحنا فيها هوية الإدراكات الاعتبارية وموقعها بحيث استطعنا فصلها عن الفلسفة. وقد كان اختلاطها بالفلسفة سبباً لوقوع كثير من الفلاسفة في الضلال.

واحتفظت الفلسفة في هذا الكتاب بحدودها ولم تختلط بالعلم، وروعيت العلاقة بين العلم والفلسفة، ولكن قطعت فيه العلاقة تماماً

بين الفلسفة وعلم الفلك القديم والطبيعيات القديمة، واستفدنا أيضاً في الموقع المناسب من النظريات العلمية الحديثة.


ومؤلف هذا الكتاب هو الأستاذ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي دام بقاؤه الذي أنفق عمره في تحصيل الفلسفة وتدريسها، وأحاط بآراء ونظريات الفلاسفة المسلمين الكبار من قبيل الفارابي وابن سينا وشيخ الإشراق وصدر المتألهين وغيرهم،وعلاوة على هذا فإنه استوعب بدافع فطري وذوق طبيعي أفكار الفلاسفة المحققين في أوربا، وهو ينهض بعبء تدريس الفقه والأصول وتفسير القرآن. وبالإضافة إلى هذا فهو ينفرد بتدريس الحكمة الإلهية في الحوزة العلمية في قم. وقد حضرت جانباً من دروسه الفلسفية (إلهيات الشفاء لأبن سينا) واستفدت من هذه الدروس الشيء الكثير.

وتدور في ذهنه- منذ سنين عديدة- فكرة تأليف دورة فلسفية تشتمل على التحقيقات القيّمة للفلسفة الإسلامية خلال ألف عام، وتضّم الآراء والنظريات الفلسفية الحديثة أيضاً، بحيث تستطيع تقريب المسافة الواسعة التي تبدو أنها تفصل بين النظريات الفلسفية القديمة والحديثة، فتؤخذان على أنهما فنان مختلفان وغير مرتبطين ببعضهما. وبحيث تستطيع هذه الدورة الفلسفية التي تلبّي الحاجات الفكرية المعاصرة وتبيّن قيمة الفلسفة الإلهية التي تتجلى فيها عظمة العلماء المسلمين، والتي تشيع عنها الفلسفة المادية أنها قد انتهت مرحلتها التاريخية.

ومنذ برهة من الزمن والأستاذ يراقب ازدياد المنشورات الفلسفية واهتمام الشباب المثقف بالآثار الفلسفية للعلماء الأوربيين التي

تخرجها المطابع في كل يوم بصورة ترجمة لمقالة أو كتاب، وهذا بنفسه دليل على وجود روح البحث والتفحص وطلب الحقيقة عند هؤلاء. وليس هذا الشيء أمراً استثنائياً وإنما له سابقة تاريخية تمتد لآلاف السنين. ومن جهة أخرى فهو يلاحظ المنشورات الطافحة بالدعايات السياسية والحزبية للفلسفة المادية الجديدة (المادية الديالكتيكية). كل هذه الأمور دفعته ليخطو نحو هدفه خطوة جديدة، فبادر إلى تشكيل مؤسسة إسلامية للبحث والنقد الفلسفي تضم مجموعة من العلماء. وتم الاتفاق منذ سنتين ونصف على أن يعّد الأستاذ بعض البحوث الفلسفية خلال الأسبوع ثم تقرأ هذه المواضيع في اجتماعات المؤسسة، وخصصوا لها ليلتين من الأسبوع. ثم يسمح للحاضرين في إبداء آرائهم وانتقاداتهم. وأسعفني الحظ في حضور هذه الاجتماعات عندما كنت في قم وذلك قبل سنة ونصف، ولا تزال هذه المؤسسة تواصل سيرها. ونتيجة لهذه الجهود دونّت لحد الآن أربع عشرة مقالة فلسفية، أربع منها يحتويها هذا الجزء الذي هو الآن بين يدي القارئ الكريم.

إن هذا العمل لشيء مهم جداً يدفع الفلسفة في إيران إلى مرحلة جديدة من عمرها.

فطلاب الفلسفة كانت معلوماتهم تنحصر فيما يقرءونه في كتبهم الدراسية المتداولة، ولكنه لم يمر على محاولة الأستاذ هذه إلا بضع سنين حتى ازداد في قم عدد الطلاب الذين يتمتعون بمعلومات فلسفية جامعة نسبياً وإحاطة بالبحوث الفلسفية ولا سيما الفلسفة المادية، وعرفوا- بدقة- المغالطات التي يتوسل بها أصحاب هذه الفلسفة.

وكان الطلاب والمتذوقون منذ البدء يكتبون هذه البحوث،

8O 8O
 تنبيه مهم : عليك ان تقرأ الشروط عند تقديم اي طلب جديد والا سيتم حذف موضوعك •• اقرأ الشروط ••

أضف رد جديد

العودة إلى ”الحكمة والفلسفة“