اسس الفلسفة 3

كل ما يخص علم الحكمة والفلسفة ومدارسها
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
سمير العاشقي
عضو متميز فعال
عضو متميز فعال
مشاركات: 787
اشترك في: الأحد 16-7-2006 8:05 pm
الجنس: اختار واحد

اسس الفلسفة 3

مشاركة بواسطة سمير العاشقي »

ما هي الفلسفـــة؟

يحتوي الكون كثيراً من الموجودات وعدداً لا يحصر من الظواهر ونُعّد نحن جزءاً من هذه المجموعة.

وكثيراً ما يحدث أن نظن بأن شيئاً ما موجود وله أساس من الواقع ونضفي عليه صفة الصدق ثم يتبن لنا أنه لا أساس له من الواقع وهو مندرج تحت عنوان الكذب. وكثيراً ما يحدث أيضاً أن نعدّ شيئاً ما معدوماً ونصفه بالكذب ثم يتضح لنا بعد ذلك أنه كان صحيحاً وهو متصف بميزات وله آثار متعددة في هذا الكون.

ونحن نعلم أن حب الاطلاع وغريزة الفحص في كل ما تصل إليه أيدينا والبحث عن علله الوجودية مغروسة في أعماقنا. ومن هنا فلا بد أن نميز الموجودات الحقيقية والواقعية (وباصطلاح الفلسفة: الحقائق) من الموجودات المتخيلة ( وهي الوهميات والاعتباريات)(سوف نذكر في نهاية هذه المقالة أن "الفلسفة" تقع في مقابل "السفسطة". ولما كان السوفسطائي منكراً لأي واقع خارج الذهن ومعتبراً الإدراكات والمفاهيم الذهنية كلها لوناً من ألوان الفكر الخالص فهو ينكر إذن أن يكون هناك معنى لقولنا: إن الحقيقة هي الإدراك المطابق للواقع.

أما الفيلسوف فهو يذعن ويسلم بأن هناك واقعاً خارج أذهاننا وهو يعتبر بعض الإدراكات حقيقة لأنها تطابق الواقع، ويسلم بأن بعض الإدراكات لا تطابق الواقع (وهي الإعتبارات والوهميات) .

فمن وجهة نظر الفيلسوف تنقسم الإدراكات والمفاهيم الذهنية إلى ثلاث فئات رئيسية:

أ-الحقائق: وهي تلك المفاهيم التي لها مصاديق واقعية في الخارج.

ب-الاعتباريات وهي المفاهيم التي ليس لها مصداق واقعي في الخارج ولكن العقل يعتبر لها مصداقاً.أي أن العقل يعتبر الشيء الذي ليس هو مصداقاً واقعياً لهذه المفاهيم- يعتبره مصداقاً. وسوف نوضح في فصل مستقل كيفية ظهور الإدراكات الإعتبارية، وكيف أن العقل لا مفرّ له من اعتبار مجموعة من المفاهيم.

ولكي يميز القارئ الكريم الإدراكات الحقيقية من الإدراكات الإعتبارية في الجملة نذكر هذا المثال:

لو شكّل ألف جندي فوجاً من الجيش فإن كل جندي يعتبر جزءاً من هذا الفوج، أما الفوج فهو عبارة عن مجموعة الجنود. ونسبة كل فرد إلى المجموع هي نسبة الجزء إلى الكل. ونحن ندرك كل فرد من هؤلاء ولنا أحكام مختلفة حول الأفراد، وندرك أيضاً مجموع الأفراد الذي أطلقنا عليه اسم" الفوج" ولنا أحكام معينة بحقه.

فإدراكنا للأفراد إدراك حقيقي لأن له مصداقاً واقعياً خارجياً، أما إدراكنا للمجموع فهو اعتباري لأن المجموع لا مصداق له في الخارج والذي له تحقق في الخارج إنما هو كل فرد من الأفراد وليس المجموع.

ج-الوهميات: وهي الإدراكات التي لا مصداق لها إطلاقاً في الخارج وهي باطلة من أساسها مثل تصور الغول والعنقاء والحظ وأمثالها.

وتسعى الفلسفة بموازينها الدقيقة إلى فصل الأمور الحقيقية عن الفئتين الأخريين.

وتمييز الأمور الاعتبارية - التي تبدو كأنها حقيقية - من الحقائق يعتبر من المواضيع المعقدة التي زلّت فيها أقدام كثير من الفلاسفة.

وحاول العلماء المحدثون في أوربا - والذين انصرفوا إلى نقد العقل وفهم الإنسان - أن يفصلوا مخلوقات الذهن عن الحقائق التي لها واقع خارجي، وأدى هذا إلى انحراف بعضهم نحو " السفسطة" (idealism ) القائلة أن جميع المفاهيم هي مخلوقة أذهاننا. ودفع البعض الآخر إلى اختيار " أسلوب الشك" ( scepticism) ).

وبذلت الفلسفة الإسلامية جهداً ملحوظاً في هذا المضمار وقدمت تحقيقات نافعة للتفكيك بين الاعتباريات والحقائق. ونرجئ تفصيل ونقد العلماء الأوربيين وتحقيق العلماء المسلمين إلى المقالة الخامسة) .
وبغض النظر عن هذا الدافع الغريزي لتأمين احتياجات الحياة

فنحن كلما اقتحمنا فرعاً من فروع العلم المختلفة فإن إثبات كل خاصة من خواص الموجودات لموضوعها يحتاج إلى ثبوت الموضوع نفسه قبل ذلك ( نحن محتاجون إلى الفلسفة من ناحيتين:

الأولى: إن الإنسان قد غرست في نفسه غريزة حب الاطلاع، وهو يحب دائماً أن يميز الحقائق من الأوهام، والأمور التي لها واقع من الأمور التي لا واقع لها.

الثانية: أن العلم بجميع فروعه يحتاج إلى الفلسفة، لأن العلم - كما سوف يذكر- سواء أكان طبيعياً أم رياضياً، وسواء أكان يتقدم بالأسلوب التجربي أم بالأسلوب البرهاني والقياسي فهو يأخذ موضوعه مفروض الوجود والواقعية ثم يتناول آثاره وحالاته بالبحث والتمحيص، ومن الجلي أن ثبوت حالة لشيء أو تحقق أثر له لا يمكن إلا في حالة وجود ذلك الشيء نفسه.

فإذا أردنا أن نطمئن إلى أن هذه الحالة أو ذاك الأثر موجود لذلك الشيء. فلا بد لنا قبل ذلك من الاطمئنان بأن ذلك الشيء بنفسه موجود، ولا يتحقق هذا إلا في ظل الفلسفة).

وهذه المجموعة من البحوث البرهانية التي تهدف إلى تأمين ما


سبق ذكره وتكون نتيجتها إثبات الوجود الحقيقي للأشياء وتشخيص علل وأسباب وكيفية ومرتبة وجودها- كل هذه يطلق عليها اسم "الفلسفة".

ويختلف عن هذا أسلوب البحث ونتيجة الفحص في العلوم الأخرى (المقصود هنا هو التفريق بين الفلسفة والعلم. ويحتاج هذا الموضوع إلى دقة كبيرة، لأن لفظ "الفلسفة" قد استعمل أخيراً بصورة واسعة، ونتج عن ذلك أن ظل معناه مبهماً بحيث أصبح الناس يفهمون من هذا اللفظ معانٍ مختلفة، فبعض يظن أن الفلسفة تعني إبداء الآراء المشوبة بالدهشة والحيرة بالنسبة إلى الكون. وبعض تخيل أنها تعني الأقوال المبعثرة أو الأحاديث المتناقصة. وبعض لا يميّز بين المسائل الفلسفية والمسائل التي تبحث في العلوم، ومن هنا فهو ينظر حل مشكلة فلسفية من العلوم الأخرى، أو يطلب الجواب عن سؤال متعلق بالعلم من الفلسفة. وبعض آخر لا يفرق بين الأسلوب الفكري المتبع في الفلسفة ( وهو أسلوب القياس العقلي) والأسلوب الفكري المستخدم في العلوم ولا سيما العلوم الطبيعية ( وهو الأسلوب التجربي)، ولهذا فهو ينتظر حل المسائل الفلسفية الدقيقة والعميقة بواسطة المجاهر أو بواتق المختبرات العلمية، من أنها لا يمكن إزالة الغموض عنها إلا بواسطة البراهين العقلية الخاصة.

وتعود جذور لفظ " الفلسفة" إلى اليونانيين ، فكانت تطلق سابقاً ويقصد منها معنى عام يشمل كل المعلومات النظرية والعملية، فتكون مرادفة تقريباً للفظ "العلم". وشاع الاصطلاح حتى بين علمائنا، ولكن العلماء فصلوا أخيراً بين لفظ العلم ولفظ الفلسفة وذلك منذ تخلّت بعض العلوم عن أسلوب البرهان والقياس العقلي وأحلّت الأسلوب التجربي محله، فأصبح كل لفظ من هذين يطلق على معنى خاص.

ولابد من النظر بعين الاعتبار إلى أن الاصطلاحات الشائعة بين العلماء المحدثين تختلف أيضاً باختلاف آرائهم وأساليبهم في فهم عقل الإنسان وحدود قدرته وقواه المدركة.

وعادة يطلق العلماء - الذين يؤمنون بقيمة الأسلوب التجربي والأسلوب العقلي في البرهان والقياس- لفظ "العلم" على تلك المواضيع الناتجة من تجارب الإنسانية، ولفظ "الفلسفة" على تلك المسائل النظرية والعقلية المحضة.

ولما كانت الحكمة الأولى حصيلة خالصة لقوة العقل البشري ولا دخل للتجربة الحسية في مسائلها ففي أغلب الأحيان عندما تطلق كلمة "الفلسفة" فإن المقصود بها هو الحكمة الأولى (كانت تعتبر أحد الفروع الثلاثة للفلسفة النظرية، وكان العلماء السابقون يسمونها بـ "الفلسفة الحقيقية" لأنها نظرية وعقلية محضة، ويسمونها بـ " العلم الكلي" لأنها تبحث في أكثر الأمور كلية وهو الوجود، ويطلقون عليها أيضاً اسم "الإلهيات" لأن إحدى مسائلها هي مسألة علة العلل وواجب الوجود. وأطلق عليها اليونانيون القدماء اسم "الميتافيزيقية" (metaphysics) لأسباب خاصة سوف نستعرضها في نهاية هذه المقالة).

ومنذ بداية القرن السابع عشر فما بعد ظهرت فئة من العلماء تنكر قيمة "البرهان والقياس العقلي" وتعتبر الأسلوب التجربي هو الأسلوب الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه. ويعتقد هؤلاء أن الفلسفة النظرية والعقلية المستقلة عن العلم لا تتمتع بأي أساس، وليس العلم إلا ثمرة للحواس، وهذه الحواس لا تتعلق إلا بأعراض الطبيعة وظواهرها (p (phenomenon) ، إذن لا قيمة لمسائل الفلسفة الأولى التي هي نظرية وعقلية محضة ومتعلقة بكنه الواقع وبأمور غير محسوسة، ولا يمكن إدراك هذه المسائل للإنسان، لا نفياً ولا إثباتاً، فلابد من إخراجها من حيّز البحث ولا بد من اعتبارها ضمن الأمور غير القابلة للتحقيق.

ومن العلماء المنكرين لقيمة الفلسفة العقلية والنظرية الفيلسوف الفرنسي الشهير أوجست كونت (a (uguste comte) الذي عاش في القرن التاسع عشر، وهو يعتقد بفلسفة حسية تعتمد على العلم، والفلسفة عنده تعني بيان علاقات العلوم فيما بينها وكذلك بعض الفرضيات الواسعة التي تستفيد منها كل العلوم أو أغلبها . ويسميها بهذا الاسم لوجود بعض الشبه بالفلسفة الأولى من حيث العموم والكلية فيها.

ويطلق اليوم اصطلاح "الفلسفة العلمية" على الأساليب المتّبعة في العلوم والطرق السائدة في كل علم.

فهذه الفلسفة الحسية التي جاء بها أوجست كونت وهكذا سائر الأنظمة الفلسفية الحسية التي أعلنها الفلاسفة الحسيون e piristes)) كلها تعتمد على العلوم الحسية، فهي إذن محدودة مثل تلك العلوم، ولا تتجاوز حدود تفسير أعراض وظواهر الطبيعة (p henomeno ).

ولا نتعرض في هذه المقالة للفلاسفة الحسيين ولا لأولئك الذين يقولون أن الفلسفة الأولى ليست قابلة للتحقيق والبحث لأنها نظرية وخارجة عن مجال الحس والتجربة. وقد خصصنا مقالة أخرى في هذه السلسلة من المقالات لرد عقيدة هذه الفئة من العلماء، وأوضحنا هناك أن أسلوب البرهان والقياس العقلي مفيد ومعتبر وأن مسائل الفلسفة قابلة للتحقيق.

وينحصر اهتمامنا هنا في مناقشة أولئك الذين يتناولون مواضيع هذه الفلسفة نفياً أو إثباتاً.

ويشمل النقاش الماديين ( Materialistes) وأتباع المادية الديالكتيكية (materialism -Dialectic)الذين أبدوا آراءً في مسائل هذه الفلسفة دون أن يفككوا بين هذه المسائل والمسائل المتعلقة بالعلوم.

والغريب أن هذه المجموعة من العلماء تعلن عن نفسها أنها تابعة للمنطق الحسي والتجربي، مع أنها قد تناولت هذه المسائل بالنفي أو الإثبات، والحس والعلوم الحسية لا يمكنها إثبات ذلك ولا نفيه.

ويحسن بالقارئ الكريم أن يلاحظ منذ الآن، وسوف يحصل له اليقين بذلك في المقالات اللاحقة، إن الفلسفة المادية وآخر أشكالها "المادية الديالكتيكية" هي لون من ألوان الفلسفة النظرية وليست فلسفة حسية ولا تجربية.

ومن المؤكد أنه قد وجد في أوربا بعض العلماء الذين آمنوا بالفلسفة الحسية ولكن فلسفة هؤلاء لم تكن مادية ولا إلهية، وذلك لأن الفلسفة الحسية قيدتهم على الرغم منهم بالمسائل المتعلقة بالعلوم الحسية، والمنطق الحسي يفرض عليهم السكوت إزاء كنه الوجود وحقيقته.

وأشهر الفلسفات الحسية هي الفلسفة الوضعية (positivisme) ومؤسسها هو الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت.

أما الفلسفة المادية في شكلها الأخير (المادية الديالكتيكية) فهي تسهب في الحديث - لأغراض دعائية - عن الحس والعلوم الحسية، وأحياناً يحرفون مسألة علمية ليصدقوا بها أحاديثهم، ولكنهم لم يتقيدوا بالمنطق الحسي لأنهم قد تناولوا بالنقد مسائل الفلسفة الأولى النظرية والعقلية، وهذه المسائل لا تدخل مجال الحس ولا التجربة.

ولهذا تناولنا في هذه المقالة تعريف الفلسفة الأولى ( التي يتناولها بالبحث الماديون أيضاً شاءوا أم أبوا) وفصلها عن مسائل العلوم (وقد خلط الماديون بين هذين البحثين ولم يستطيعوا فصل أحدهما عن الآخر).

فالمقصود من الفلسفة في هذه المقالة هو الفلسفة الأولى التي هي نظرية وعقلية صرفة، والهدف من هذه المقالة هو تعريفها وتوضيح الفرق بينها وبين سائر الأقسام التي تسمى اليوم بالعلوم.

ولا نجد مفرّاً من ذكر مقدمة قصيرة ليتمكن القارئ الكريم من إدراك تعريف الفلسفة بشكل دقيق وليستطيع تمييز المسائل الفلسفية من المواضيع العلمية:

تشكل العلوم المنتشرة في المجتمعات البشرية أقساماً مختلفة، ويعرف كل قسم منها باسم خاص، فهناك الفيزياء، الكيمياء، الحساب، الهندسة، الفلك، الأحياء، و... وكل واحد من هذه يطلعنا على لون معين من المعارف بحيث نستطيع قبل أن نَرِدَ ذلك القسم أن نعرف ما هو لون المسائل التي سنواجهها في هذا المجال لأننا نعلم:

إن كل علم عبارة عن البحث في سلسلة من المسائل المتعلقة بموضوع معين، وتوجد رابطة خاصة تربط بين مسائل كل علم وتصلها ببعضها وتفصلها عن مسائل العلوم الأخرى.

إذن لكي نظفر بتعريف لكل علم، ولكي نميز كون المسألة الفلانية لأية مجموعة من المسائل هي منضمة، ولأي علم هي منتمية، ولا بد أن نشخص موضوعات العلوم أنفسها. فما دمنا لا نعرف ما هو موضوع علم الحساب وما هو موضوع علم الهندسة فإننا لا نستطيع أن نفرق بين مسائل الحساب ومسائل الهندسة، وهكذا بقية العلوم.

وننتقل من هذه المقدمة لنقول أن الفلسفة بدورها قد أخذت على عاتقها حل مشكلات معينة، وتدور مسائلها حول موضوع معين. وهي لا تتدخل فيما يتعلق بالمسائل العلمية، ولا تسمح أيضاً لهذه المسائل أن تتطفل على حدودها.

والفلسفة عبارة عن البحث والدراسة في سلسلة من المسائل التي تتحدث عن مطلق الوجود وأحكامه وأعراضه على أساس البرهان والقياس العقلي. وهي تتكلم عن وجود الأشياء أو عدمها وتدقق في أحكام مطلق الوجود ولا تنظر إلى الأحكام والآثار المختصة بموضوع واحد أو عدة مواضيع معينة، وهذا بعكس العلوم التي تتناول دائماً موضوعاً واحداً أو عدة مواضيع مفروضة الوجود ثم تدقق في أحكامها وآثارها وهي لا تنظر إلى وجود الأشياء ولا إلى عدمها.

وليتضح هذا الموضوع أكثر نذكر هذين المثالين:

لو أخذنا موضوع الدائرة وقلنا أن محيط كل دائرة يساوي (3,14) مضروباً في قطرها، فهذا متعلق بعلم الهندسة، ومعنى هذا الكلام هو كل دائرة لها وجود خارجي فإن لها خاصية (تساوي محيطها مع 14،3) مضروباً في قطرها). إذن فرضنا للدائرة وجوداً خارجياً ثم أثبتنا لها هذه الخاصية (وهي أن محيطها يساوي 3,14 مضروباً في قطرها).أما لو تسائلنا: أيكون للدائرة وجود خارجي أم أن ما نتصوره دائرة ليس إلا شكلاً كثير الأضلاع؟

فهذا موضوع يتعلق بالفلسفة، لأننا هنا لم نتحدث عن خواص الدائرة ولا عن أحكامها وإنما تحدثنا عن وجودها أو عدمها.

والمثال الآخر يدور حول الجسم، فلو قلنا أن لكل جسم شكلاً، أو لكل جسم إشعاعاً، فهذا مرتبط بالعلوم الطبيعية. أما لو قلنا: أيكون الجسم (وهو الشيء الذي له ثلاثة أبعاد) موجوداً في الخارج أم أن ما نحسّ به على أساس أنه جسم وله ثلاثة أبعاد ليس في الواقع إلا مجموعة من الذرات الخالية من أيّ بعد؟

فهذا موضوع فلسفي.

موضوعاً أو عدة مواضيع مفروضة الوجود ثم يواصل دراسة الخواص ويوضح الآثار.

ولا يتناول أي علم البحث في أن الموضوع الفلاني موجود أم لا؟ وإذا كان موجوداً فما هي كيفية وجوده؟

وإنما هو يأخذ الموضوع مفروض الوجود ثم يبحث أحكام هذا الموضوع، ويحيل مسألة وجوده وكيفية ذلك الوجود إلى مجال آخر (هو الحس أو البرهان الفلسفي).

ونستطيع أن نلخص ما مضى من حديث فيما يأتي:

نحن قد نخطئ أحياناً أو نتردد في بعض خواص الأشياء وأحكامها فنقول مثلاً: أن التركيب الفلاني لا طعم له (بالقطع أو بالترديد) مع أن له في الواقع طعماً، أو بالعكس.

وأحياناً أخرى قد نخطئ أو نجهل أصل وجود الأشياء أو عدمها فنقول مثلاً: الروح ليست موجودة في الخارج، أو نقول أن الحظ له تحقق في الواقع.

فهذان لونان وأسلوبان من البحث في هذين المثالين ليسا هما متشابهين.

فلا بد أولاً من إثبات وجود الشيء أو أخذه مفروض الوجود ثم ننتقل إلى البحث في خواصه وأحكامه.

نعم كثيراً ما يحدث هذا الأمر وهو أن تثبت البحوث العلمية أحكاماً وخواصّ لموضوع ما، ثم نعرف من هذا كيفية وجود هذا الموضوع وبأية علة هو مرتبط. مثلاً إذا أثبتنا في العلوم الطبيعية أن جزءاً من الذرة المسمى بـ " البروتون" يدور حول نفسه بحركة سريعة، إذن نستطيع القول:

"إن لدينا في الخارج حركة وضعية دائرية"

ومن الجلي أن في هذا الحديث قضيتين:

الأولى: أن جزء الذرة المسمى بالبروتون يدور حول نفسه، وهذا القول يعتمد في إثباته على البرهان الطبيعي والتجربة العلمية.

الثانية: أن لدينا حركة وضعية دائرية في الخارج، وهذا يعتمد على القول الأول، ولا يستند مباشرة إلى التجربة.

وبهذا يتضح أن العلوم بأسرها تتوقف في صمود محاولاتها واستمرا تقدمها على الفلسفة. وكذلك الفلسفة فهي تتوقف في بعض المواضيع على شيء من مسائل العلوم فهي تستفيد وتنتزع منها بعض النتائج (إلى هنا اتضح الفرق بين الفلسفة والعلم، وعرفنا كيف تحتاج العلوم إلى الفلسفة في إثبات موضوعاتها. ونريد أن نبيّن هنا كيف تستفيد الفلسفة أحياناً من العلوم، فهي لا تستفيد منها بهذا النحو وهو أن تكون بعض المسائل العلمية في صف ورتبة المسائل الفلسفية، ولا تستفيد منها بحيث نستنتج المسألة الفلسفية من المسألة العلمية، وإنما تستفيد منها بهذا الشكل وهو أن الفلسفة "تنتزع" بعض المسائل ذات الوجهة الفلسفية من مسائل العلوم.

ويلزمنا أن نبيّن الفرق بين معنى الانتزاع ومعنى الاستنتاج لكي نعرف أن المسألة الفلسفية ليست هي نفس المسألة العلمية وليست هي مستنتجة منها وإنما هي منتزعة منها.

الاستنتاج: وهو يعني أن يقوم العقل بأخذ نتيجة جزئية من حكم كلي أي أنه يحيط علماً بالجزئي بوساطة الكلي. مثلاً لو ثبت لنا أن كل موجود طبيعي معرض للفناء فإننا " نستنتج" كون الشجرة فانية لأنها موجود طبيعي، وإذا أردنا أن نرتبها ترتيباً منطقياً قلنا: "الشجرة موجود طبيعي، وكل موجود طبيعي معرض للفناء، إذن الشجرة معرضة للفناء".

وإذا دققنا في هذا وجدنا أن العلم بالجزئي قد ولد من العلم بالكلي، فهو يعتبر إذن نتيجة له.

ومن الواضح أن مسائل الفلسفة لا يمكن أن تستنتج من مسائل العلم، لأن المعطي للنتيجة لا بد أن يكون أكبر في شموله وكليته من الآخذ للنتيجة، والحال أن المسائل الفلسفية أعم وأكبر كلية من جميع المسائل الأخرى لأن موضوعها هو مطلق الوجود، وليس بين الموضوعات ما هو أكبر كلية من الوجود.

الانتزاع: وهو اصطلاح تستعمله الفلسفة وعلم النفس لعمل ذهني خاص يمكن تسميته أيضاً بـ "التجريد" . وهو يعني أن الذهن عندما يدرك عدة أشياء متشابهة فهو يقيس بعضها إلى البعض الآخر ويميز بين صفاتها المختصة وصفاتها المشتركة ثم يصوغ من الصفة المشتركة مفهوماً كلياً يصدق على كل تلك الأفراد، وحينئذ يقال أن هذا المفهوم الكلي قد انتزع من هذه الأفراد، مثل مفهوم الإنسان المنتزع من الصفات المشتركة بين علي وخالد وغيرهما.

وفي اصطلاح الفلسفة يستعمل لفظ الانتزاع في موارد أخرى.

فالمقصود من قولنا أن المسألة الفلسفية "تنتزع" من المسألة العلمية هو أن الفلسفة تسير في استدلالها الفلسفي على أساس مسألة علمية ثم تصل إلى نتيجة فلسفية. وبعبارة أخرى فإن الفلسفة ترتب قياساً منطقياً تحتل فيه المسألة العلمية صغرى هذا القياس (لا كبراه) ، ثم تستنتج الفلسفة نتيجة فلسفية حسب قواعدها الكلية.

إذن أصبح واضحاً أن الفلسفة شيء غير العلم وأن بينهما علاقة خاصة، وحسب هذه العلاقة فإن العلم يستفيد من الفلسفة، كما أن الفلسفة أيضاً تستفيد من العلم.

وسوف يجيء في المقالات الآتية أن حاجة العلوم إلى الفلسفة غير منحصرة فيما ذكرناه، وإنما كل القوانين الكلية العلمية متوقفة في قطعيتها وقانونيتها على أصول عامة لا يمكن إثباتها إلا في ظل الفلسفة).



وتوجــد هناك عدة ملاحظـــات

الملاحظة الأولى:

لما كان البحث الفلسفي مختلفاً مائة بالمائة عن البحوث العلمية

في الأسلوب، إذن فالمسألة العلمية ومن أي علم كانت لا يمكن أن تصبح جزء البحث الفلسفي، بل ينفصل كل لون من الدراسات الفلسفية (الإلهية والمادية) عن البحوث العلمية، ويسير بإسلوبه الخاص ويتحدث عن وجود الأشياء وعدمها.

وبهذا يتضح أن الظنون لازمت علماء الفلسفة المادية الديالكتيكية (التحولية) لا تتمتع بأساس سليم.

فهؤلاء العلماء يزعمون أن الفلسفة الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) تعتمد فقط على مجموعة من المقدمات العقلية والظنون الساذجة التي لم تتأكد صحتها، بينما فلسفتنا تستند إلى العلم المعاصر الذي تقدم بوساطة الحس والتجربة، وفي كل يوم تؤكده صحة مسيرة آلاف التحف التي تقذف بها مؤسساته الصناعية، وهو لا يعتمد على غير الحس والتجربة وليس فيه إثارة مما وراء المادة.

ويدعون أيضاً أن الفلسفة ما وراء الطبيعة تؤدي إلى طرق مسدودة يتوقف فيها البحث ويموت بسببها العلم، أما فلسفتنا فهي مستندة إلى العلم وتقدم بتقدمه.

وفيما مضى من حديث جواب لهذا الادعاء ولكن الفصول القادمة بإذن الله سوف توضح الموضوع بشكل أدق.

وينبغي أن يعلم هؤلاء العلماء أن البحث الفلسفي منفصل أساساً عن البحث العلمي، وأن المادية الديالكتيكية - مثل

الميتافيزيقية تماماً- تستفيد من نتائج العلوم الحقيقية (يقصد بالعلوم الحقيقية ما يقابل العلوم الاعتبارية، وكان القدماء يسمون العلوم الاعتبارية بالعلوم العملية كعلم الأخلاق وغيره) بالاعتماد على البحث الفلسفي. ولكن النزاع واقع في أن أياً من هاتين الفلسفتين قد أخذت ما يلزمها من مقدمات بصورة صحيحة وسليمة ؟(لو دققنا في كتب المادية الديالكتيكية لوجدنا المسائل المطروحة فيها للبحث إنما هي لون من الاستنباط النظري من الفرضيات والنظريات العلمية قام به العلماء الماديون. وسوف نبين في الفصول القادمة الأسس الفلسفية والمنطقية للمادية الديالكتيكية مع نقدها. وسوف نعرف كيف إنها استنباطات خاطئة من النظريات والفرضيات العلمية).

ويشهد ما قلناه إننا لا نجد في حديثهم السابق أية مسألة علمية طبيعية أو رياضية، ولا نجد أيضاً أثر لهذا الحديث في الكتب الطبيعية أو الرياضية.

وإذا كانت الفلسفة الميتافيزيقية لا تتغير كما تتغير العلوم (من شاء أن يعرف المعنى الحقيقي لتكامل العلوم والفلسفة، وأي لون من التكامل الموجود في العلوم لكن الفلسفة محرومة منه فليرجع إلى المقالة الرابعة).

فسبب ذلك أن العلوم تعتمد على الفرضيات وهي تتغير بتقدم وتوسع التجربة، أما الفلسفة فهي تعتمد على البديهيات وتعطي نتائج علمية ثابتة.

ويؤيد هذا الرأي أن الفلسفة لا تأبى التغيير في المجالات التي تأخذ فيها مقدماتها من العلوم كالفلكيات والجواهر والأعراض وغيرها فهي تتغير كالعلوم بتغير الفرضيات.

8O 8O 8O
 تنبيه مهم : عليك ان تقرأ الشروط عند تقديم اي طلب جديد والا سيتم حذف موضوعك •• اقرأ الشروط ••

أضف رد جديد

العودة إلى ”الحكمة والفلسفة“